إضاءة
لم أدرِ ما قلبي حينها
أكانَ أوسعَ عليَّ أم أضيقَ كعادته
كنتُ أجوبُ وِحْدتي ولا أملك وقتًا
ولا أغنياتٍ ولا أمنياتٍ ولا صهيلَا
ولم يكن معي أحدٌ إلَّا ظلّي النَّحيل الغريب كعادته كذلك
لم أُعتق شمسي بمغيبٍ، ولا صوتي بوجه ٍكستنائيّ
لم أرَ منّي إلَّا أ .. ن ...... ا وبضعَ غيماتٍ ودمعًا أَدْمنتُه ولا يَعْرفني
وخطواتٍ أهشُّ بها على ما تَبقّى من حزنٍ
ارتميتُ على مقعدٍ وطاولةٍ فارغينِ في مقهى يقع آخرَ وِحدتي
كان مرشوقًا جدرانًا من حكاياتِ العابرين لقهوتِهم وصمتِهم
وكان هواؤه بضعَ كلماتٍ على عَجَل
فاجأني الفنجانُ المرتمى على الطّاولة أمامي فوجدتُه ولم أجدني
ووجدتُ الآخرين كلَّهم جالسين
على موائدهم إلَّاي
فقد كنتُ أحزمُ ما تبقّى منّي ومنّي كعادتي
وأَحْتسي ظِلّي الذي ذكرته سابقًا
بيد أنَّ ذاك الفنجان أوقفني على غير عادته، قائلًا:
خُذْ واقرأ:
"إلّا رَسُولَهم"!
هناك القصَّة القصيرة جدًّا: اختصارُ الحياة في لَمْحةِ خَاطر، وإعادةُ نَمْذجَةِ العالَم في رُقْعة شَطْرنج لم يَبقَ فيها إلَّا "كش مات"، وأتمتةُ الأحداثِ والإحداثيّاتِ في ملفٍّ مضغوطٍ يُلائمُ بريدَ الـمُتلقّي.
وهنا؛ هذه المجموعةُ القَصَصيَّة "إلَّا رَسُولَهم"([1])، للأديبِ الكاتبِ يُوسُف الجوارنة: لمحةُ خاطرٍ تَتَشظَّى في إحداثيّاتٍ نَصّيَّةٍ تَليقُ بالحاضر، وشَخْصيّاتٍ تَركتْ رُقعة شَطْرنجها لِتَتنسَّمَ أحداثًا خاطفةً جَدليَّةً في ساحةٍ تَبدو على اتِّساعها أضيقَ مَجْهولًا، يُتْركُ لها أنْ تتحرَّكَ كيف شاءت، بيدَ أنَّها تَجدُ مُفارقتَها في أنَّها "كش متُّ":
"أَخذَ صورةً؛ لا يقومُ "الجاحظ" فيها مَقامه، تُزيّنُ عُنُقه "رَبطة" نُسجت بثلاثة ألوان، معتدلُ القامة، مُزركش، يبتسم لزوجه إذا خَرج، تُوصيه أنْ يكونَ ماهرًا في القولِ مثلَ أخيه. استُضيفَ في أحدِ الدّواوين، قَدَّم نفسَه نموذجًا في الإصلاحِ والوطنيَّة، زعم أنَّه فوق الشُّبُهات، "خَليّنا نْسَمّيها" لازمةٌ لا تُفارقه، أوجسَ من الوصيَّة خيفةً، اختلطت وُرَيقاتٌ بين يديه، تَصَبَّب عَرَقًا، ضَجِر منه الحُضور، سَمَّوا الأشياءَ على غيرِ طريقته، سألوه غيرَ سؤال...، تلعثم في كلِّ جواب!"
إنْ تَكُنِ المدرسةُ الأدائيَّةُ قد حَوَّمَتْ حولَ ثنائيَّةِ الكفايةِ والأداء، قاصدةً إعادةَ هيبةِ الكاتب، وتُعْطيه الابتهاجيَّةَ الميتافيزقيَّة، وسُلطةَ السَّرْدِ بضميرِ (الأنا) في ثورةٍ على السَّردِ الانعكاسيِّ بضمير الغائب لِمَا بعد الحداثة- تَرَ وَمَضاتِ هذه المجموعةِ تُشْعلُك دَهْشةً، وأنتَ تَجدُ عالَمَها ضيّقًا لا يتَّسعُ إلَّا لقدرةِ الـمُبدعِ الفَذَّةِ في تَوْظيفِ خوارزميَّتِه اللغويَّةِ، في أداءِ عالَمٍ مَضْغوطٍ مُكدَّسٍ على ضيقِه بِمجاهيلَ إنسانيَّةٍ تُسمَّى شخصيات، تَحْملُ أقنعةً فلا تَعْرفُ الأبطالَ من بقيَّةِ الشُّخُوص، ولا تَصْعدُ خَشَبةَ الحياةِ إلَّا وتَنْزِلُها سريعًا؛ أَدَّت ما عليها وغابت.
إنَّ اللافت حقًّا في هذه المجموعة "لا مُسمَّيات" الشَّخْصيَّات، ليس لأنَّها قصَّةُ وَمْضةٍ، أو ضئيلةٌ حَسْبُ، ولا لأنَّها تُكثِّفُ التَّكثيفَ أيضًا، إنَّها شخصيَّاتٌ لا غايةَ لها في عالَمِ النّصِّ إلَّا أنْ تُؤدّي دورها دون أنْ يكونَ لها كاتبٌ أو مُخْرج، لها حُريَّتُها ضمنَ بضعِ مُفرداتٍ قُبيل أنْ تَرْحل، ليحلَّ مَحلَّها آخرونَ وأُخرياتٌ على تيكَ الخَشبة، وتبقى الخَشَبةُ أخيرةً وحيدةً، ليجدَ الـمُتلقّي نفسَه يَرْتقي الخَشَبةَ ويَتقنَّعَ قناعَ الـمُبدعِ في دائرةٍ جديدةٍ تَبدأُ من الـمُتلقّي إلى الـمُبدع.
يُعلن الكاتبُ أنَّه -كما نصوصُه- لا يَحْتفي بأيِّما ثنائيَّة، إنَّه يتركُ عالَـمَه النصّيَّ يَجْري بسلطةِ النَّصِّ لا سُلطةِ المؤلِّف، ولعلَّ هذا ما يُبعده عن السَّردِ بضمير (الأنا)، والتَّستُّرِ بضمير الغائب، هو لا يريدُ أَنْ يكونَ كاتبًا ولا ساردًا ولا مُخْرجًا، إنَّه -كما القارئ- عابرُ سبيلٍ للنّصِّ؛ يُلْقحُه بلغتِه ورُؤاه وصبغيّاتِه، ثُمَّ يَتركُه ليكون.
الدُّكتور أحمد داود خليفة
أستاذ النَّقد بجامعة طيبة بالمدينة المنوَّرة
([1]) نُشرت مُنجَّمةً في موقع "عَمُّون" الأردنيّ الإلكترونيّ.